«أخذ رجال الموساد يطرقون كل السبل لتجنيد عملاء لهم فى كل مكان، فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم، ومن كان يسعى وراء نزواته وشهوته قذفوا إليه بأجمل نسائهم، ومن ضاقت به الحياة فى بلده أمنوا له عملاً وهمياً يقوده فى النهاية إلى مصيدة الجاسوسية».. هذا ما حدث مع أشرس وأشهر جواسيس إسرائيل فى مصر، الجاسوس نبيل نحاس الذى ظل يمارس تجسسه وخيانته فى الظل لمدة ١٣ عاماً متتالية، وعند سقوطه أصيبت المخابرات الإسرائيلية بلطمة شديدة أفقدتها توازنها، فقد تزامن سقوطه مع سقوط جواسيس آخرين اكتشف أمرهم، وفقدت «الموساد» بذلك مصدراً حيوياً من مصادرها فى مصر، الذين أمدوها بمعلومات غاية فى الأهمية طوال هذه السنوات بلا تعب.
تمتد جذور أسرة «نبيل» إلى «حاصبيا» فى محافظة لبنان الجنوبية، وانتقلت الأسرة إلى «كفر شيما» بمنطقة الشويفات جنوبى بيروت، للارتقاء بالمعيشة والعمل هناك، ثم انتقلت الأسرة إلى مصر، وأقام والده بالسويس، وتزوج فتاة مصرية أنجبت له «نبيل» عام ١٩٣٦، وتميز منذ صغره بذكائه الشديد حتى تنبأ له الجميع آنذاك بمستقبل مضمون ونجاح أكيد، وبالفعل نجح فى دراسته حتى عمل سكرتيراً فى منظمة الشعوب الأفروآسيوية، التى كان يرأسها الأديب يوسف السباعى، ومن خلال وظيفته وموقعه توسعت علاقاته وتشعبت، وتبلورت شخصيته الجديدة التى أصبحت تلفت انتباه الحسان حتى ارتبط بعلاقة حميمية بفتاة أفريقية من «كوناكرى» فى غينيا، اسمها «جونايدا روتى»، تعمل صحفية لعدة صحف أفريقية وعالمية، وأصبح ينفق عليها، وهنا استشعر نبيل ضآلة راتبه الذى كان لا يتعدى المائة جنيه فى ذلك الوقت، وتعثرت أحواله المالية فوجد الحل لديها وهو الانضمام إلى إحدى وكالات الأنباء العالمية، كمراسل مقابل راتب كبير مغرٍ.
كانت هذه هى النواة الأولى للتجسس دون أن يدرى، فكانت أولى المهام التى أوكلت إليه السفر إلى منطقة الصحراء المغربية، لينقل أخبار الصراع السرى الدائر فى ذلك الوقت بين المملكة المغربية وموريتانيا، وكان سعيدًا بالمهمة الجديدة لقربه من عشيقته «جونايدا»، وطار «نبيل» إلى الدار البيضاء وكانت بانتظاره مفاجأة بدلت مجرى حياته كلها، إذ تعرف إليه فى بهو الفندق رجل مغربى يهودى عرف منه وجهته فعرض عليه مساعدته لدخول ريودى أورو، عن طريق أعوان له فى «سيدى أفنى» أقصى جنوب المغرب وكيفية اجتياز «وادى درعة» للوصول إلى الحدود، ونجح فى عمله حتى أعد له المضيف وليمة غداء بمنزله فى «أزمور»، التى تقع على نهر «أم الربيع» وتشرف على ساحل المحيط الأطلنطى، والتقى هناك «مليكة» اليهودية المغربية التى تستحوذ على جمال فتّان، وتبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، وأذهل جمالها المراسل الصحفى الجديد، فنسى مهمته فى الجنوب وتراجع دور «جونايدا» العشيقة الأولى إلى القاع، أمام سحر مليكة، التى أحكمت شباكها حوله وسيطرت على مجامع حواسه وحولته إلى خادم يلبى طائعاً رغباتها، حتى طلبت منه السفر معها إلى باريس حيث الحرية والعمل والثراء، وبلا وعى وافقها ورافقها واستدرجته للحديث فى السياسة، فأفاض بغزارة وحدثها عن علاقاته بكبار المسؤولين فى مصر، وكانت تلك الأحاديث مسجلة بالصوت والصورة، إلى جانب تسجيلات أخرى وهو عارٍ بين أحضانها.
وكان يراقب ويسجل ذلك ضابط الموساد «باسكينر» ولما حانت الفرصة المناسبة عرفته مليكة بفتاها وقدمته إليه على أنه رجل أعمال إسرائيلى يدير شركة كبرى للشحن الجوى وأخذ «باسكينز» يتطرق فى حواره معه حول موقف العرب من إسرائيل، وعمليات الموساد الخارقة فى البلاد العربية، وكيف أنها تدفع بسخاء إلى عملائها وتحرص على حمايتهم إذا انكشف أحدهم ونوه - من بعيد - بالتسجيلات الصوتية والأفلام التى بحوزتهم والأسرار التى تحويها الشرائط، وأنها قد تهلك أصحابها إذا وقعت فى أيدى المخابرات العربية، ولم يكن «نبيل» غبيا،ً فقد استوعب نواياه ومقصده، وكان تعليقه الوحيد أنه شخص مقتنع بإسرائيل ويحبها من خلال قراءاته ويتعاطف معهم، وبذلك خطا نبيل أولى خطواته الفعلية على درب الخيانة، وكان أول دروس الخيانة، هو كيفية استدراج ذوى المراكز الحساسة، للحديث بأسرار عن الدولة واستغلال حفلات الخمر والجنس فى الوصول إلى أسرار فى غاية الأهمية، إلى جانب تزويد الموساد بنسخة طبق الأصل من محاضرة مؤتمرات المنظمة الأفروآسيوية التى سيعود لعمله بها من جديد، وعلموه أيضاً كيفية قراءة التقارير بالمقلوب، وكيفية المراقبة، وكتابة تقارير وافية عن مشاهداته، حتى لو كانت تافهة من وجهة نظره وإرسالها بواسطة الحبر السرى إلى أحد العناوين فى باريس.
بدأ النشاط التجسسى الفعلى لـ«نبيل النحاس»، فى منتصف عام ١٩٦٠، فقد عاد إلى عمله بالمنظمة، وكانت وظيفته ساترًا طبيعياً يختفى خلفه ولا يثير أى شبهات من حوله، واستطاع من خلال علاقاته المهمة استخلاص معلومات لا يتوقف سيلها، كانت تصل إلى المخابرات الإسرائيلية أولاً بأول، وبالتالى يحصل على مقابل مادى ضخم، يتسلمه فى القاهرة بطرق ملتوية عديدة، وبعد عامين تقريباً استدعى إلى باريس فى مهمة عاجلة، حيث كان بانتظاره باسكينر الذى عهد به إلى ضابط إسرائيلى آخر استطاع تدريبه، على كيفية ترويج الشائعات والتأثير سلبياً على الرأى العام، من خلال تجمعات الأوساط المختلفة فى مصر، إلى جانب ترسيخ فكرة الخوف من الإسرائيليين لدى المحيطين به، واستبيان آرائهم تجاه العدو وقدرات الجيوش العربية على مواجهته.
وفى خلال سنوات قليلة، أصبح نبيل النحاس، من أنشط جواسيس إسرائيل فى مصر، وفى مرحلة أخرى من مراحل صناعة الجواسيس المحترفين أعد له برنامج تدريبى أكثر خطورة فى بيروت، إذ تم إخضاعه لدورة تدريبية بواسطة خبير متفجرات عميل للموساد، فتعلم كيفية صنع المتفجرات، وتفخيخ الرسائل والطرود والتخفى والتمويه والهرب والتنكر، وبذلك خلقوا منه جاسوساً فاعلاً وخبيراً فى الأعمال الإرهابية والتدمير فى مصر حتى إنه قام بتهديد الخبراء الألمان، الذين يعملون فى مصر وقتها، لإنتاج الصواريخ بتوجيه الرسائل المتفجرة إلى بعضهم، بالاشتراك ضمناً مع «يوهان وولفجانج لوتز»، عميل الموساد الشهير فى القاهرة، الذى ألقى القبض عليه فى فبراير ١٩٦٥ ولم يجر إعدامه.
ورغم عدم اكتشاف أمره فإن نبيل النحاس، لم يتوقف بعد سقوط لوتز، واحتل مرتبة الصدارة لدى المخابرات الإسرائيلية فى المنطقة، وقام بدور حيوى فى نقل أسرار مهمة إلى إسرائيل، قبل نكسة يونيو ١٩٦٧ ساعدت العدو على اجتياح الأراضى المصرية واحتلال سيناء، حتى اعتبر نبيل النحاس من أسباب نجاح إسرائيل فى هزيمة العرب. وبعد الهزيمة طلب «نبيل» أن يرى حلمه إسرائيل من الداخل فأعدوا له برنامجاً مشحوناً ينتظره قبل زيارته لإسرائيل بعدة أسابيع، وأثناء تواجده فى أثينا كانت خطة سفره اكتملت، وبغموض شديد وصل تل أبيب واستقبلوه بحفاوة بالغة.
وفى مكتب «زيفى زامير»، رئيس الموساد، كان اللقاء أكثر حرارة، إذ ترك «زامير» مكتبه وجلس قبالته يتأمل وجهه العربى الصديق، واحتضنه أحد ضباط الموساد، قائلاً له «أهلاً بك فى وطنك إسرائيل»، ثم التقى بالسيدة جولدا مائير، التى صافحته بحرارة، وأمرت بتلبية كل مطالبه ولو كانت مستحيلة، وقالت لـ«زامير»: «شكراً على هديتك الرائعة التى جلبتها لإسرائيل» وعلق الخائن قائلا ً«لم أكن أحلم قبل اليوم بأكثر مما أنا فيه الآن، أشعر أننى بين أهلى، ويكفينى هذا الشعور سيدتى»، وأمرت له رئيسة الوزراء بمكافأة خاصة قدرها ٢٥ ألف دولار من مكتبها، بخلاف ما سيحصل عليه من أموال الموساد، وبعد ١٦ يوماً فى إسرائيل، عاد نبيل النحاس، إلى أثينا بآلاف الدولارات التى كوفئ بها من إسرائيل والتى زادته شراهة فى الخيانة، وعبقرية فى جلب المعلومات.
وخلال هذه الفترة تلقى رسالة من «الموساد»، تطلب منه معلومات مركزة عن حركة ميناء الإسكندرية، وهنا بدأ وقوع الجاسوس عندما لجأ إلى أحد الأصدقاء الذى يعمل بالميناء وأغدق عليه بالهدايا الثمينة، فانتبه صديقه لذلك، وتساءل مع نفسه: «لماذا»؟ وادعى جهله بأمور تجرى بالميناء الحيوى، فوجد إلحاحاً من «نبيل» بحجة عمله مراسلاً لوكالة أنباء دولية، ولم يكن «نبيل» يدرك مطلقاً أن صديقه انتابته الشكوك، فبادر على الفور بإبلاغ الجهات الأمنية المصرية السيادية، ووُضع العميل تحت المراقبة الشديدة.
وبعد نصر أكتوبر ١٩٧٣ صُدِم الخائن لهزيمة إسرائيل، وفى روما عنفه ضابط الموساد واتهمه بالإهمال الجسيم، الذى أدى لهزيمتهم الساحقة أمام العرب، وأقسم له أنه لم يقصر، لكن الضابط كان ثائراً وتخوف «نبيل» من فكرة الاستغناء عن خدماته لـ«الموساد»، لذلك عاد إلى مصر فى الرابع عشر من نوفمبر ١٩٧٣، وبداخله تصميم قوى على «تعويض» هزيمة إسرائيل، وبنشاط مجنون أخذ يبحث عن مصادر لمعلومات، وإجابات يحمل أسئلتها، وفى غمرة جنون البحث كانت الأجهزة الأمنية السيادية المصرية تلاصقه كظله، وتريد ضبطه متلبساً بالتجسس.
وفى ٢٤ نوفمبر ١٩٧٣ - بعد عشرة أيام من عودته من روما - اقتحمت الأجهزة الأمنية السيادية شقته فى القاهرة، وضبطت أدوات التجسس كاملة، فلم يستطع الإنكار وانهار باكياً أمام المحققين، وأدلى باعترافات تفصيلية ملأت مئات الصفحات، وهو لا يصدق أنه سقط بعد ١٣ عاماً كاملة فى مهنة التجسس، التى أجادها واحترفها، وقُدّم إلى المحاكمة، وظل لآخر لحظة ينتظر المفاجأة.. مفاجأة مبادلته والعودة إلى «وطنه إسرائيل»، لكن خاب ظنه وقُتِل أمله عندما أنكرت إسرائيل معرفتها به، وتجاهلته ليموت ذليلاً لا ينفعه بكاء الندم.. أو تنقذه أموال الموساد من حبل المشنقة.
0 التعليقات :
إرسال تعليق