الأربعاء، 30 ديسمبر 2015
3:47 ص

باروخ مزراحي

باروخ زكي مزراحي يهودي مصري، ولد بـمحافظة القاهرة عام 1926 م، وكان والده زكي مزراحي واحداً من تجار الدخان، في شارع كلوت بك، وكان ثرياً إلي الحد الذي سمح له بإلحاق ابنه باروخ بمدرسة الفرير، قبل أن يتوفي عام 1933 م، إثر إرهاق شديد في العمل.. وعلي الرغم من وفاة الوالد، راحت أم باروخ تعمل بجد وبلا كلل، لتوفر لأبنائها حياة قريبة من تلك التي وفرها لهم والدهم، واشتهرت بين جيرانها بأنها خياطة بارعة تتقاضي أجراً يتناسب مع مهارتها وذوقها الرفيع، بحيث نجحت في إلحاق باروخ في سبتمبر 1940 م بمدرسة الفرير الثانوية، المعروفة باسم مدرسة القديس يوسف، وحصل منها علي شهادة التوجيهية، من القسم الأدبي عام 1944 م، والتحق في العام نفسه بكلية التجارة جامعة القاهرة، وتخرج فيها عام 1948 م، وتخصص في المحاسبة،وفي نفس عام تخرجه، عمل باروخ في شركة كونزلز لاستيراد المعلبات والمحركات، ثم انتقل في عام 1950 م للعمل في شركة بخكو للأدوية والأدوات الجراحية، وظل يعمل فيها لمدة عشرة أشهر، انتقل بعدها للعمل مدرساً، في مدرسة الأقباط الكبري الثانوية، لتدريس اللغة الفرنسية، وكان عمله ينتهي فيها في الرابعة عصراً، حيث يعمل حتي المساء في شركة سمسرة، تحمل اسم دانيال نبياه وشركاه.

وأصبح باروخ موظفاً ثرياً، بالمعني المعروف في تلك الأيام، يقطن شقة أنيقة، تحوي كل متطلبات العصر، ويرتدي أفخر الثياب، ويتعطر بأغلي العطور، ويكفل أمه وشقيقته إيفيت وشقيقه ماير، وكل شيء يسير معهم علي ما يرام. حتي ظهرت فورتينيه.. كان هذا في عام 1955 م، عندما التحقت فورتينيه الفاتنة الشقراء بنفس المدرسة، التي يعمل بها باروخ، وأصبحت زميلته في العمل.. ومنذ اللحظة الأولي، التي وقع فيها بصره علي شعرها الذهبي وابتسامتها الساحرة، غرق باروخ في غرامها حتي النخاع، وراح يتقرب منها في لهفة واضحة، وهي تسمح له بالاقتراب إلي حدود مدروسة، ثم تصده وتمنعه عن الاستطراد في حنكة وصرامة، تمتزجان برقة وإغراء يفتنانه، ويخلبانه لبه وصوابه، حتي إنه عرض عليها الزواج.. كان يتوقع منها الشعور بالمفاجأة، أو الخجل، أو حتي إشاحة رقيقة بوجهها، ولكن ما فعلته كان مدهشاً للغاية.. لقد تطلَّعت إليه لحظة بابتسامة ظافرة، وتألق الزهو في عينيها واضحاً، ثم لم تلبث أن حوَّلت كل هذا إلي ضحكة مجلجلة، تموج بالانتصار والخيلاء، وعلي الرغم من هذا، فقد رفضت عرضه؛ لأن عائلتها كلها قررت الهجرة إلي إسرائيل.. حاول إقناعها بالبقاء في مصر مشيراً إلي أن كليهما يتمتع بوظيفة ممتازة، ووضع مالي جيد ولكنها تشبثت برأيها، وحسمت الأمر بأن الوسيلة الوحيدة هي أن يهاجر هو أيضاً إلي إسرائيل.. أو يفترقان تماماً..

وتحت ضغط الهوي والحب، أقنع باروخ أمه بالهجرة إلي إسرائيل، وحملها رغماً عن إرادتها إلي السفينة، التي حملتهما إلي ميناء بيريه وهما يذرفان الدمع مع غياب أضواء مدينة الإسكندرية خلف الأمواج، في السادس من فبراير، عام 1957 م، وبصحبتهما الفاتنة فورتينيه وعلي شفتيها ابتسامة ظافرة، لم يدرك باروخ معناها، حتي عندما التقي مندوبي الوكالة اليهودية في بيريه، ولاحظ استقبالهما الحار لصديقته فورتينيه ومعرفتهما الواضحة بها، قبل أن ينتقل الجميع إلي باخرة أخرى حملتهم إلي ميناء حيفا، حيث أرض الميعاد، التي حلموا بها طويلاً.

وهناك في قلب إسرائيل، راحت الصدمات تتوالي، كانت الصدمة الأولي هي أنه سينتقل مع أمه، للعيش في مستعمرة معجان ميخائيل حيث تعمل أمه في حياكة الملابس، ويعمل هو فلاحاً أجيراً.. والصدمة الثانية هي أن حياته في أرض الميعاد، لن تساوي ذرة من حياته في مصر، إذ يكفيه أجره بالكاد، ليعاني شظف العيش، ويجد مأوي متواضعاً، ويتناول ثلاث وجبات أشد تواضعاً.. أما الصدمة الكبري، التي زلزلت كيانه، وحطمت كل أحلامه، فهي أن زواجه من فورتينيه مستحيل، لأن القوانين الإسرائيلية تحظر زواج اليهودي من فتاة ليست من أم يهودية.

ولم تكن هذه نهاية الصدمات، بل تواصل الأمر بانتقاله إلي حيفا، وعمله هناك رجل شرطة، بأجر تافه ضئيل، واضطراره للعيش في مسكن مشترك، مع يهودي شرقي آخر، ومعاناته من سوء معاملته، باعتباره أحد يهود الإشكنزيم، من الطبقة الثانية، وفي النهاية تزوجت فورتينيه من يهودي ثري، وانقطع آخر أمل له في الزواج منها، وعلي الرغم من كل هذا، لم يبق باروخ بلا زواج.. لقد التقي، أثناء عمله في شرطة الآداب، زميلته مارجريت، فوقع في حبها من أول نظرة، وغرق في بحر الهدوء المطل من عينيها الحانيتين، وسرعان ما تزوجها، وبدأ حياة أسرية جديدة، ينفق عليها من الإتاوات والرشاوي، التي يتقاضاها من قطط الليل، لغض البصر عن نشاطهن.

وذات يوم، استدعاه رئيسه، وقال له في لهجة آمرة حازمة إنه قد رشحه لعمل مهم، وطلب منه أن يذهب غداً إلي مكتب المخابرات، ويقابل رئيسه حايم أيدولوفيتش، ومن هنا كانت البداية.. لقد التقي في الصباح التالي مدير مكتب المخابرات المحلي البولندي الأصل الذي تفحصه بنظرات سريعة، ثم أبلغه بأنه تم تعيينه في جهاز المخابرات الإسرائيلي، وأسند إليه مهمة مراقبة نشاط بعض الشيوعيين، في قلب إسرائيل، وانغمس باروخ فجأة في هذا العالم.. كان يغمر رئيسه بتقاريره بالغة الخطورة عن نشاط الشيوعيين في إسرائيل ويتقاضي مكافآت سخية مقابل هذا، وبرع في عمله كثيراً، حتي استدعاه حايم ذات يوم، وابتسم ابتسامة كبيرة، وهو يطلب من أن يذهب لمقابلة شخص مهم، في قهوة فيرد شمال شارع ديزنجوف في تل أبيب، في تمام السادسة مساءً، وذهب باروخ في الموعد تماماً.. وبدأ خطوته الثانية في عالم المخابرات.. في البداية أسندوا إليه بعض أعمال الترجمة، لتقارير واردة من العملاء الأجانب، ثم استدعاه المدير ذات مرة، وأخبره بأنهم سيرسلونه في مهمة إلي هولندا حيث افتتحوا مكتباً تجارياً هناك، كغطاء لأعمال التجسس، وفهم باروخ ما يعنيه الأمر، وسافر إلي هولندا، وهناك أقام علاقات جيدة مع المصريين المقيمين في العاصمة الهولندية، ونشطت علاقته بهم، وجمع قدراً كبيراً من المعلومات، جعله يؤكّد أن مستوي الوعي الأمني عند العرب منخفض للغاية، فما أن يبدأ الحديث مع أحدهم، حول موضوع ما، حتي ينطلق مثرثراً، ويروي كل ما لديه عنه، مهما بلغت سرية الأمر.

وبعد النجاح الساحق لمهمته في هولندا عاد باروخ إلي تل أبيب، ولم تمض فترة قصيرة حتي استدعاه مديره مرة أخرى، وقال في لهجة تشف عن أهمية الأمر وخطورته: إن المصريين قد ضربوا إحدي السفن الإسرائيلية، أمام باب المندب، وهذا ما دفعهم إلي أن يسندوا إليه مهمة بالغة الخطورة، يعلقون آمالاً كبيرة علي نجاحه فيها، وأن رئيسة الوزراء شخصياً، شديدة الاهتمام بما سيحققه فيها؛ إذ سيسافر أولاً إلي عدن ثم اليمن الشمالية وبعدها إلي دولة الإمارات.. ويريدونه أن يجمع أكبر قدر من المعلومات عن هذه البلاد، ويتابع نشاط منظمة التحرير الفلسطينية فيها، ويريدون أن يعرفوا بالتحديد، هل يتدرب الفدائيون هناك علي ضرب ناقلات البترول الإسرائيلية في البحر الأحمر أم لا.

وشعر باروخ بأهمية المهمة وخطورتها، وهو يبدأ رحلته، بجواز سفر مغربي، يحمل اسم أحمد الصباغ وعلي كتفه، كأي سائح عادي، آلة تصوير جيدة، تساعده علي التقاط صور الأهداف الحيوية.

وهكذا غادرهم باروخ، وهو يشعر بالزهو والغرور، لأنه يعمل في جهاز خطير ودقيق، مثل المخابرات الإسرائيلية، وسافر إلي عدن، وأنهي مهمته فيها بنجاح، ثم إلي اليمن، حيث أقام في فندق الأخوة في الحديدة، وبدأ هناك عمله في ثقة وبساطة، فراح يتجوَّل في الأسواق، وبالقرب من الميناء، حاملاً آلة التصوير المعلقة بكتفه، والتي يلتقط بها عشرات الصور للميناء، والسفن الراسية فيه، وإجراءات الأمن من حوله، ثم يعود إلي حجرته في الفندق باسم الثغر، شديد الزهو والهدوء، ولكن فجأة وفي نفس اليوم الذي استعد فيه للسفر إلي أديس أبابا، فوجئ بشابين من رجال الأمن اليمنيين في حجرته، يسألانه في لهجة مهذبة تفتيش حجرته، فحاول الاعتراض، وثار ثورة مصطنعة، وهدد بالاتصال بسفارة المغرب، ولكن أحداً لم يعره انتباهاً، وعثر الشابان علي الأفلام، فصاح مؤكداً أنها مجرد صور تذكارية للرحلة، ولكن أحدهما دسّ يده في جيب باروخ، وأخرج الرسوم الكروكية للميناء والمواقع العسكرية اليمنية، وهو يتساءل: أهذه؟.. رسوم تذكارية أيضاً ؟!..

وسقط باروخ، واستسلم لهما وهما يقودانه إلي مبني التحقيقات، ولكنه ظلّ يصر علي أنه مغربي الجنسية، إلا أن اليمن كانت قد أبلغت المخابرات المصرية بسقوط الجاسوس، الذي حذرتها مصر من أنه سيصل إليها مسبقاً، بعد أن نقل أحد عيونها المعلومة إليها من قلب إسرائيل، وأرسلت مصر ضابط المخابرات المصري الأسمر رفعت جبريل (الثعلب )، الذي واجهه، وكشفه أمام نفسه، ثم حمله معه إلي القاهرة.

لم تكن رحلة الضابط المصري مع الإسرائيلي باروخ زكي مزراحي، من اليمن إلي القاهرة سهلة أو هينة، بل كانت مغامرة عنيفة، تستحق مجلداً ضخماً لسردها، خاصة مع محاولات الموساد المستميتة لاستعادة ضابطهم، ولكنهما في النهاية وصلا إلي القاهرة، وتسلمت السلطات باروخ وقبل أن يبدأ إسماعيل مكي، نائب المدعي العسكري العام، تحقيقاته معه، مال نحوه، وأخبره بابتسامة هادئة، أن زوجته مارجريت رزقت بمولودة أمس، وهي في حالة جيدة.. وهنا انفجر باروخ باكياً، واعترف بكل شيء.

بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 طالبت إسرائيل مصر بمبادلته بمجموعة من الجنود الأسرى ولكن الجانب المصري رفض المبادلة بحجة أن مزراحي ليس جندي أسير بل جاسوس، هذا الأمر جعل رئيس الموساد آنذاك زفي زامير يسافر إلى واشنطون من أجل التوسط لصالح مزراحي، في منتصف المحادثات طلبت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير عن طريق وزير دفاعها موشي ديان الانسحاب من المفاوضات والخضوع للرأي العام وتجاهل قضية إطلاق سراح مزراحي والتركيز على استرداد الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى الجانب المصري، نتيجة لذلك قرر زامير تقديم استقالته من رئاسة الموساد.

في سنة 1974 تم الإفراج عنه مقابل الإفراج عن الجاسوس المصري عبد الرحيم قرمان.

توفي مزراحي في سنة 2005 بهدوء بدون أن يصدر من الحكومة الإسرائيلية أي بيان رسمي يذكر فيه العرفان والامتنان التي قدمها طوال خدمته العسكرية كما هي العادة.

0 التعليقات :

إرسال تعليق